السفير فنيامين بوبوف يكتب: 2023.. عام نهاية النزاع العسكري في أوكرانيا

time reading iconدقائق القراءة - 18

هذا المقال جزء من سلسلة "2023.. عام الأسئلة الصعبة".

بقلم السفير فنيامين بوبوف

  • دبلوماسي سوفيتي وروسي، وسفير مفوض فوق العادة سابقاً، حائز على درجة الدكتوراه في التاريخ. بوبوف هو كذلك محلل متخصص في شؤون الشرق الأوسط بمعهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، التابع لوزارة الخارجية الروسية.  
  • شغل بوبوف منصب سفير المهمات الخاصة بوزارة الخارجية فى روسيا الاتحادية وكان مسئولاً عن ملف العلاقات الروسية مع منظمة المؤتمر الإسلامي (تغير اسمها لاحقاً لمنظمة التعاون الإسلامي)، وغيرها من المنظمات الإسلامية الدولية. شغل كذلك منصب سفير الاتحاد السوفياتي لدى اليمن الشمالي، ولاحقاً منصب سفير روسيا في الجمهورية العربية اليمنية والجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية والجمهورية التونسية. 
     

تتواصل العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا منذ عشرة أشهر. هذا التأخير الطويل، يُعْزَى إلى أخطاء ارتكبها جنرالاتنا في التخطيط العسكري، ومع ذلك، فإن أهداف هذه العملية طبيعية ومبررة.

في ديسمبر من عام 2021، دعا الاتحاد الروسي دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى توقيع اتفاقية أمنية تحد من تمدد الناتو شرقاً وتمنع انضمام أوكرانيا إليه، وتتعهد روسيا ودول الناتو بعدم نشر الأسلحة والقوات في المناطق التي يرى فيها الطرف الآخر تهديداً لأمنه القومي، وأكدت الاتفاقية على أن الطرفين ليسا في حالة خصومة، وعلى امتناع الأطراف عن نشر الصواريخ الأرضية القصيرة والمتوسطة المدى في المناطق التي يمكن منها إصابة أهداف في الجانب الآخر.    

رفضت الولايات المتحدة ودول الناتو الأخرى اقتراحنا بفظاظة.

وللأسف تلجأ الدول الغربية باستمرار إلى الخديعة، وإلى النكوص عن تعهداتها، إذ كانت تعهدت بكل وضوح في عام 1990 بعدم توسع الناتو شرقاً.    

لقد أكد جيمس بيكر وزير الخارجية الأميركي الأسبق، في اجتماع مع ميخائيل جورباتشوف (آخر رئيس للاتحاد السوفيتي) في موسكو في 9 فبراير 1990، بأن الوحدة الألمانية الوشيكة لن تكون عتبة لتوسع الناتو في شرق أوروبا. وفي مقابل توحيد ألمانيا قدّم بيكر، لجورباتشوف "ضمانات حديدية بأن الانتساب للناتو لن يتجاوز ألمانيا بوصة واحدة إلى الشرق". وقد كرر هذا التعهد ثلاثاً.  

في حديث جرى بين وزير الخارجية الألماني هانس ديتريش جينشر ونظيره البريطاني دوجلاس هيرد في 6 فبراير 1990، وتم رفع السرية عن وثيقة تضمنته من جانب الخارجية البريطانية، قال جينشر: "على الروس أن يثقوا بأن حكومة بولندا لن تنضم إلى حلف الناتو لو حدث أن خرجت من حلف وارسو".  

لكن بولندا، ومعها التشيك، والمجر، انضمت إلى الناتو عام 1999 رغم اعتراض موسكو. وبعد خمس سنوات، وفي 4 مارس 2004، فُتحت بوابة الناتو على مصراعيها لبلغاريا ورومانيا وسلوڤاكيا وسلوڤينيا، ثم انضمت إستونيا ولاتڤيا وليتوانيا.

كما هو معلوم فإن انقلاباً وقع في أوكرانيا عام 2014، وأطيح بالرئيس المنتخب شرعياً، هذا رغم أن وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبولندا كانوا قد سعوا لتسوية الخلافات سلمياً.  

قام الذين استولوا على السلطة في كييف فوراً بمنع اللغة الروسية، رغم أن ثمانين بالمئة من الأوكرانيين يتكلمونها. وقد أدى هذا إلى احتجاجات مشروعة من جانب المناطق التي تغلب على ألسنة سكانها اللغة الروسية، وخصوصاً القرم، ودونباس. وقد صوَّت سكان جزيرة القرم بأغلبية ساحقة في استفتاء لصالح الانضمام لروسيا. وبالنسبة لدونباس، فقد بدأ حكام أوكرانيا آنذاك بقصف المدن والبلدات في منطقتي لوغانسك ودونيتسك. وكان غضب سكان دونيتسك عارماً فجندوا فئة كبيرة، من الشبان لصد الهجمات، وألحقوا الهزيمة بالقوات الأوكرانية. وهنا توجهت كييف إلى فرنسا وألمانيا تطلب هدنة سريعة، وتم توقيع ما سمي بمعاهدات مينسك، وهي تضمن قدراً كبيراً من الحكم الذاتي لدونباس ضمن أوكرانيا. وبدأ ماراثون تفاوضي طويل.       

غير أنَّ كييف، كما سيظهر لاحقاً، لم تكن تريد قبول اتفاقيات مينسك. وقد أقرت أنجيلا ميركل المستشارة السابقة لألمانيا مؤخراً بأن الجميع لم يكن يريد تطبيق اتفاقيات مينسك، وأن الغرض منها كان تمكين أوكرانيا من تكديس الأسلحة وتدريب القوات بمساعدة الغرب. ولدينا أدلة مستقاة من الأوكرانيين الفارِّين بأنَّ كييف كانت تعد لهجوم كبير على دونباس، التي اعتبرتها كياناً انفصالياً.  

نتيجة لذلك، اضطررنا في 24 فبراير 2022 إلى بدء عملية عسكرية خاصة. بالنسبة إلى روسيا، فإنَّ نشر قواعد لحلف الناتو في أوكرانيا أمر مرفوض، فهذا يقلل زمن وصول المقذوفات باتجاه موسكو إلى ما بين 5 و7 دقائق. ومعنى ذلك أنه لن يكون بمقدورنا الرد، علماً بأنَّ الوقت الذي تحتاجه الصواريخ العابرة للقارات يبلغ 20 دقيقة على الأقل. والعقيدة العسكرية الروسية لا تتيح البدء بتوجيه ضربة نووية، فهذا سلاح للرد فقط.

إثر ذلك، بدأ الغرب يضخ السلاح بأشكاله إلى أوكرانيا بوتيرة غير مسبوقة، وفي الوقت ذاته أضيفت عقوبات جديدة على موسكو، (الحزمة التاسعة من عقوبات الاتحاد الأوروبي تم إقرارها في 15 ديسمبر 2022). وفي المجمل فإن 11 ألف بند عقابي قد فرضه الغربُ علينا في الفترة المنصرمة، وهذا قدر غير مسبوق من القيود التي فرضت على دولة واحدة.  

حرب اقتصادية على روسيا

وبينما تُشن هذه الحرب الاقتصادية على روسيا، يتغنى مسؤولو الناتو بأن هذه العقوبات ستؤدي إلى انهيار الاقتصاد الروسي، ويزعمون أن الانهيار سيبلغ 20% على الأقل. وجاء هذا أيضاً في تقرير لـ"بلومبرغ".  

غير أن الاقتصاد الروسي استطاع أن يتأقلم مع العقوبات المفروضة. وتظهر النتائج في نهاية عام 2022، أنَّ تراجع الاقتصاد سيبلغ 2,9% فقط، بعد الإجراءات المهمة التي اتخذناها. ويقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه لن يتجاوز 0,9% في 2023، ثم بعدئذ يبدأ النمو. وهذا يبرز قدرة اقتصادنا على التحمل في وجه التحديات المتزايدة.

من الإجراءات المهمة التي أسهمت في التخفيف من أثر العقوبات تشكيل مجلس تنسيقي بمرسوم رئاسي. يتبع المجلس لحكومة الاتحاد الروسي ويرأسه رئيس الوزراء، وغرضه الوفاء باحتياجات العملية العسكرية الخاصة (وهذا يتضمن التزويد بالسلاح وصيانته، وتوفير العتاد اللازم، والمخصصات المالية، والخدمات الطبية، والقيام بالإنشاءات والتجهيزات، وتوفير الخدمات اللوجستية). وببساطة فإنَّ المرسوم الرئاسي أعطى الحكومة صلاحية حمل المؤسسات العامة والخاصة على الإذعان للأوامر الملحة.

ثقة في المستقبل

وبرغم الحملة القاسية التي يشنها الغرب ضدنا، ينظر الروس بثقة إلى المستقبل، بالإضافة لامتلاكنا الحبوب (بلغ محصول 2022 ما يقرب من 150 مليون طن، خمسون مليوناً منها معدة للتصدير)، فإننا أكبر مصدر في العالم للنفط والغاز والأسمدة، ولعديد من المعادن، وغير ذلك من المواد الخام. ولدينا فوق ذلك أكثر من ربع ما على الكوكب من مخزون المياه العذبة. كما أنَّ ربع إنتاج العالم من الألماس يأتي من روسيا. وإنجازاتنا الرائدة في حقل السلاح الحديث تظهر أننا يجب أن نشعر بالارتياح لما نملك من التقنيات.

لقد أدَّت الإجراءات العشوائية الغربية، التي صاحبتها حملة عداء هوجاء على روسيا، إلى مفاقمة أزمتي الطاقة والغذاء عالمياً. لقد تخطى الغرب كل الخطوط الحمراء، وأخذ يلجأ إلى الأعمال الإرهابية ضدنا: تفجير جسر القرم الذي يربط شبه الجزيرة بمنطقة كراسنودار، وتخريب شبكتي أنابيب الغاز، نورد ستريم 1، ونورد ستريم 2، في جوف البحر مما خفض بشكل كبير إمكانية ضخ الغاز الطبيعي إلى أوروبا الغربية. وهذا العمل الأخير يمثل مكسباً للولايات المتحدة.

وضعت الدول الغربية سقفاً لأسعار النفط الروسي، وهذا الإجراء يلحق الضرر بسوق الطاقة عالمياً، وسيؤدي في مرحلة لاحقة إلى زيادة كارثية في الأسعار.  

ومع التعافي في اقتصادنا، سنمضي قدماً في تحقيق أهداف العملية العسكرية الخاصة، ولهذا الغرض، أجرينا تعبئة محدودة بتجنيد 300 ألف في الجيش، وبدأ 77 ألف منهم الخدمة في الوحدات القتالية، فيما يواصل البقية التدريب لمدة في المعسكرات، ومراكز التأهيل.

نقوم بخطوات حثيثة لزيادة التعاون مع الدول النامية التي ترفض، رغم ضغوط الغرب، الانضمام إلى تطبيق العقوبات. وقد أدت الخطوات الغربية المعادية لروسيا إلى مزيد من تكاتف المجتمع الروسي، (الدعم الشعبي لما يقوم به الرئيس بوتين ظل في مستوى 80%). بعض الرافضين الروس غادروا البلاد، وهذه حقيقة، وهم أقل من 200 ألف، غير أن عدد سكان روسيا يزيد عن 150 مليوناً، مع الأخذ بالحسبان ضم المناطق الأربع: جمهورية دونيتسك الشعبية، وجمهورية لوغانسك الشعبية، ومنطقتي زابوروجيا وخيرسون، وأغلبية سكان هذه المناطق صوتوا لمصلحة الانضمام.

نهاية النزاع في 2023

نحن على ثقة تامة بأن النزاع في أوكرانيا سينتهي العام المقبل، غير أنَّ التسوية السياسية قد تقتضي وقتاً يتجاوز ذلك بكثير. لا شك في أنَّ روسيا ستحقق النصر، وعواصم الغرب تعي ذلك، لكنها ماضية في تزويد أوكرانيا بالسلاح الذي لن يغير النتيجة، إنها تأمل في استنزاف روسيا. ومن جانبنا ما فتئنا نعلن استعدادنا للدخول في مسار المفاوضات.  

تنطلق موسكو من مُسلَّمة واضحة: لا تفاوض بشأن انضمام القرم والمناطق الأربع الأخرى لروسيا. غرض المفاوضات تعزيز الوضع الحيادي لأوكرانيا، ونزع النازية ونزع السلاح منها. ويجدر بالذكر أنَّ هناك مطلباً يسانده حراك شعبي مهم، باستعادة مدينة أوديسا الروسية الأصل، فهي قد أقيمت في أواخر القرن الثامن عشر على يد كاترين الثانية كجزء من الاتحاد الروسي. (وتلقينا مطالبات كثيرة من أهالي أوديسا بهذا الخصوص).

نحن لا نرفض أي اتصال بالدول الغربية، بيد أننا نؤكد على أنَّ هذا يجب أن يستند إلى التكافؤ، ومراعاة مصالح الطرفين. وقد توصل بعض القادة الأوروبيين إلى هذه القناعة، وهم يدركون أنَّ روسيا، وهي كبرى دول أوروبا، لا غنى عنها لتوطيد أمن القارة، ولا أمن للقارة برغم أنف روسيا.

سنرى في المستقبل القريب محاولات نشطة لفرض هدنة علينا بغرض منح أوكرانيا متنفساً. ومع ذلك ففي الأوساط الحاكمة في الدول الغربية، ولا سيما في فرنسا وألمانيا اللتين تشعران بالمسؤولية عن إخفاق اتفاقيات مينسك، ثمة وجهات نظر تتعالى بأنَّ أي تفاوض يجب أن يسبقه توقف العمل العسكري. إنهم يريدون حفظ ماء الوجه أمام الرأي الشعبي الذي يزعم أنَّ أوكرانيا ستنتصر. وفي السياق، كان لافتاً للنظر تصريح صدر مؤخراً عن وزير الدفاع الإيطالي فحواه أنَّ بدء المفاوضات يستلزم وقف تزويد أوكرانيا بالمساعدات العسكرية.  

أزمة الغرب أمام الرأي العام

في عدد من دول الاتحاد الأوروبي بدأ المسؤولون يفكرون في مقبل الأيام: كيف سيبررون لشعوبهم المصاعب الاقتصادية، ولا سيما في مجال الطاقة، في حال توقفت الأعمال الحربية فجأة. تبدي الولايات المتحدة وبريطانيا حماسة كبيرة لمحاولة إقناع كييف بأن تقاتل حتى آخر أوكراني، غير أنهما لن تستطيعا الفكاك من الإجابة عن السؤال: علامَ هذا الإنفاق الضخم لتسليح أوكرانيا؟ (في الأشهر العشرة الماضية فقط شحنت الدول الغربية إلى أوكرانيا أسلحة بقيمة عشرات مليارات الدولارات، هذا رغم أن ميزانية أوكرانيا لا تتجاوز 52 ملياراً. وقد أعلنت الإدارة الأميركية وحدها نيتها تخصيص 100 مليار دولار لكييف. وللمقارنة، فإن الأميركيين يزودون دول إفريقيا كلها بخمسة وخمسين ملياراً فقط).

نحن على ثقة بأن مراكز الثقل في النظام العالمي المتعدد الأقطاب ستخوض – عاجلاً أو آجلاً – عملية تفاوض مع الغرب قائمة على التكافؤ، من أجل مستقبل الجميع. ونرجو أن يكون هذا في العاجل.  

عالم جديد متعدد الأقطاب

ومنذ الآن بدأت تتشكل الخطوط الرئيسية للعالم الجديد متعدد الأقطاب، وستقوم دعائمه في الغالب على منظمتين تضمان معظم البشرية: أولاً "البريكس" BRICS، وتضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا. (وقد قدمت الجزائر مؤخراً طلباً رسمياً بالانضمام). وثانياً: منظمة شنغهاي للتعاون، SCO، وتضم: كازاخستان، والصين، و قيرجيزستان، وروسيا، وطاجيكستان، وأوزبكستان، وباكستان، والهند، وإيران. وهناك 12 دولة تملك صفة العضو المراقب في المنظمة، وهي: أفغانستان، وبيلاروس، ومنغوليا، وأذربيجان، وتركيا، وسريلانكا، وكمبوديا، ونيبال، وأرمينيا، ومصر، وقطر، والسعودية.  

تواجه عدة دول أوروبية مصاعب كبيرة بسبب الطبيعة العشوائية للعقوبات المفروضة علينا، ويتجلى هذا في مجال الطاقة. ونرجو أن يسهم فصل الشتاء في إعادة النخب السياسية الأوروبية إلى رشدها.   
يتشكل النظام العالمي الجديد أمام ناظرينا، وفي هذا النظام لا بد من أن يصغي أحدنا للآخر، وأن تؤخذ بجدية كل وجهات النظر، وأن تكون لكل الشعوب وكل المجتمعات والثقافات والأفكار والأديان كلمتها، دون فرض حقيقة مطلقة على أحد. على مثل هذه الأرضية فقط، التي تفرض الاضطلاع بمسؤولية عن مصير الشعوب والكوكب، يمكننا بناء سيمفونية للحضارة البشرية.    

لقراءة المزيد من المقالات ضمن هذه السلسلة:

تصنيفات