Ferrari.. كيف تصنع فيلماً من رجل وسيارة وسباق؟

time reading iconدقائق القراءة - 8
مشهد من فيلم Ferrari المشارك في الدورة 80 لمهرجان فينيسيا السينمائي - facebook/FerrariMovie
مشهد من فيلم Ferrari المشارك في الدورة 80 لمهرجان فينيسيا السينمائي - facebook/FerrariMovie
فينسيا -رامي عبد الرازق*

23 عاماً وسيناريو Ferrari (فيراري) يتأهب للظهور على شاشات السينما في واحدة من أطول رحلات الكتابة، وعقب رحيل اثنين من أصحاب الامتياز الإبداعي للفيلم، الأول هو برك ياتس صاحب الكتاب المأخوذ عنه نص الفيلم (فيراري: الرجل.. السيارات.. السباقات.. الآلة) الذي توفي في عام 2016، والثاني هو صاحب النسخة الأصلية من السيناريو تروي كندي الذي توفي في 2009.

هذا النوع من القصص يطلق عليه غالباً Ever Green أي أن تقديمه غير مشتبك مع مرحلة سينمائية معينة، وليس لأن الفيلم يدور في حقبة الخمسينيات أي يعتبر تاريخاً مجدولاً بالسيرة الذاتية، لكن لأن ظل الصراع الذي يلقي بعباءته فوق كامل الحضور النفسي والفكري والدرامي هو ظل إنساني بالأساس، أي إننا أمام صراع سرمدي بين كتلتين، كل منهما لديه من الجينات ما يجعل خليطهما لا ينتج سوى الدم أو الدموع، ونعني بهم الروح والمادة.

الفيلم الذي استطاع المخرج الأميركي مايكل مان، الذي أخرج فيلم Heat، وMiami Vice، أن يغزله فيما يقرب من ربع قرن، وجد طريقه أخيراً إلى السجادة الحمراء دورة مهرجان فينسيا الـ80، ضمن 20 فيلماً تتزاحم على جوائز المسابقة الرسمية لأول وأقدم مهرجان سينمائي دولي.

لماذا Ferrari الآن؟

وقبل أن نحاول الإجابة على هذا السؤال تجدر الإشارة إلى أن ظهور الفيلم على المستوى الإنتاجي ثقيل العيار والتفاصيل، يحمل في جانب منه ختم مؤسسة مهرجان البحر الأحمر والتي سبق لها أن شاركت في إنتاج Jeanne Du Barry من بطولة جوني ديب، والذي افتتح دورة مهرجان كان السينمائي الأخيرة قبل ثلاثة أشهر.

وينتمي Ferrari وDu Barry، إلى أفلام السير الذاتية، المطعمة بحليات التاريخ، وهي أفلام تحتاج إلى ميزانيات خاصة مؤهلة لتحقيق الإيهام اللازم بالحقبة التاريخية، سواء كانت القرن الثامن عشر في الفيلم الفرنسي، أو منتصف القرن العشرين في الفيلم الأميركي.

وتبدو الأجوبة على سؤال الصبر لأكثر من 20 عاماً من أجل الخروج بالفيلم، قادمة من عنوان الكتاب الأصلي المأخوذ عنه (الرجل.. سيارات السباقات.. الآلة) هذه العناصر مجتمعة، سواء كانت سيرة ذاتية أو متخيلة تكفي لأن تصبح منطلقاً درامياً رائعاً لعشرات القصص، فما بالنا بقصة كتبها الواقع نفسه، وفي لحظة تاريخية شديدة الحساسية.

مقاربة الرجل والسيارة

يبدأ الفيلم عام 1957 بعد 10 سنوات من تأسيس إينزو فيراري رجل الأعمال الإيطالي خارق الشهرة لشركته التي شكلت أحد دعائم اقتصاد ما بعد الحرب العالمية الثانية في إيطاليا، وذلك بمشاركة زوجته لورا، لكن الرجل المقصود في عنوان الكتاب ليس رجل الأعمال فقط ولكنه الرجل الذي يحمل عبء الذكرى الحية لمفارقة ابنه الشاب، كما نراه في زيارته لقبره وحديثه مع العشب فوق القبر البارد، وبين محاولة العثور على صيغة من أجل مصارحة العالم، وعلى رأسه زوجته، أن لديه ابن آخر من عشيقة سرية الكل يعلم بأمرها ولا أحد يتحدث عنها في نفس الوقت.

أما السيارات فهي المعادل المجازي لكل ما كان يطمح هذا الرجل أن يقدمه للعالم، ثمة فوقيه غير بشرية لدى هذا الرجل الذي يتصور أنه قدم مخلوق غير مسبوق هدية من عبقرياته للدنيا، وهي السيارة التي تحمل اسمه والتي يرى أن من يقودها فهو حقيقة لا يركب سيارة بل يركب الريح نفسها!

إن سيارات فيراري مع حضورها المحفز لكل هرمونات الإثارة في مشاهد التدريب والسباق هي شخصية أساسية من شخصيات الفيلم، ليس لأنها محور الصراع والتنافس الهائل بين مازيراتي وفيراري من أجل الاستحواذ على السوق، بل لأنها طرف فاعل ومفعول به في نفس الوقت، فهي قاتلة السائقين وهي شبيهة الريح التي يعتمد عليها صانعها في أن تحقق له، عبر اجتيازها سباق الألف ميل الذي يمر بوسط روما، المكانة التي يرى أنه يستحقها كصانع متفرد ورابح في الأول والأخير.

 ثم هناك السباقات، وليس أجمل من أن يصل بنا مايكل مان، إلى أن نشعر أن السيارات تضخ دماً في محركاتها بينما تعمل شرايين السائقين بالزيت المشتعل، كيف تمر السيارة في جزء من الثانية بالكادر فكأن قلبها الملتهب بالسرعة يرج قاعة العرض، لا عبر الصوت بل عبر اختيار توقيت المرور بشكل دقيق وفي لحظات ملهمة.

استخدام الصمت

وفي فيلم ينشغل شريط الصوت بأصوات المحركات الهادرة وتشتعل الشاشة باحتكاك العجلات بالأسفلت، يصبح الصمت وسيلة هامة لتتبع وصول ناقل الحركة الدرامي من وضع الثبات إلى أقصى سرعة، تبلغ سرعة الفيراري في السباقات 250 كيلومتراً في الساعة، لدينا سيناريو يبدأ بمشهد لرجل ينهض بخفة من جانب امرأة كي لا يوقظها هي والصغير الذي ينام مطمئناً في معيتهما الدافئة، نراه يتسلل دافعاً سيارته خارج المنزل لكي لا يوقظ صوت محركها أحلامهم.

مشهد به من الصمت والسكون ما قد يجعله لا يعلق في ذاكرة المتفرج بالمقارنة لمشاهد التدريب والسباق، ولكنه في الحقيقة مشهد مفتاحي يمكن أن نتوقف أمام أي لحظة في الفيلم ونعود إليه لنجده يختصر كامل رحلة البطل والسيارة والسباق، بل والحقبة كلها في تلك الفترة.

رجل وحيد بكامل وعيه وإرادته وبروح عطوفه وشعور بالمسؤولية، رجل أسرة من طراز رفيع، يدفع سيارة، هو صانعها ومالكها، ليجعل منها الرقم الأول في مجال الاستثمار، إذ تختصر علاقته بها، في هذا المشهد، تاريخ حقبة ما بعد الحرب كلها من الناحية المادية والتجارية والاستثمارية على حد سواء.

يحتاج إينزو فيراري، إلى أن تجتاز سياراته الخمس خط نهاية سباق الألف ميل، كي يتمكن من أن يضع يد عملاق السيارات "فورد" على عجلة قيادة فيراري.

التسرب من الأسرة

هذه الأسرة التي يتسرب الرجل من بينها بخفة دون إزعاج أشبه بانعكاس لأسرة كان يملكها ولم تعد، فمنذ فقد ابنه تحولت علاقته مع زوجته لورا إلى ما يشبه شريكة العمل، حتى أن رغبتها في أن تبيع حصتها بالشركة تفور في رحمها المغدور، بعد أن تعلم أن لديه عشيقة، وابن بديل عن ابنها الراحل.

هنا أيضاً يلعب الصمت دوراً في تأطير علاقة الزوجة (الأم الثكلى) بالزوج والابن الراحل، فلورا تذهب إلى القبر بمفردها، رغم أنها تمر من جانب زوجها المغادر، فلا تتحدث مع العشب الراقد فوق الشاهد البارد بل تنظر إلى القبر فقط، كأنها بهذا الصمت تستدعي الابن في حضرتها، أو كأن الصمت هو ما اتفقت عليه مع القبر كي يشف رخامه، فيسمح لها أن تلقي نظرة على الجسد الشاب النائم في موت كئيب.

ولا تغيب عن الشاشة "كمياء هائلة التفاعل" بين آدم درايفير وبينيلوبي كروز (الزوجين فيراري)، ولو أن بينيلوبي كروز رشحت لأي جائزة عن هذا الفيلم فسوف تكون مشاهدها الصامتة أمام قبر الابن الراحل هي التي ستحضر لها الجوائز، وليس مشاهد ثورتها على فيراري وإطلاقها الرصاص من حوله بعد أن ينكشف لها ستار السر المكون من 12 عاماً من الخيانة وطفل.

أخيراً تجدر الإشارة إلى أنه يمكن اعتبار Ferrari فيلم تنافسي من الدرجة الأولى داخل مسابقة تضم أكثر من كتف إبداعي عال وأنيق، تكفي أسماء مثل يورجوس لانثيموس، وصوفيا كوبولا، ولوي باسو، وميشيل فرانكو، وستيفن برايز، لأن ندرك حجم شراسة المنافسات على الأسد الذهبي هذا العام، ولكنها شراسة محمودة سوف تجعل من الدورة الثمانين للمهرجان الدولي الأقدم، دورة احتفالية وغير منسية بحق، لا عبر السجاجيد الحمراء والحفلات الملونة، ولكن عبر ما يعطي الروح لأي مهرجان بالعالم، عين السينما وضوء الأفلام. 

*ناقد فني

اقرأ أيضاً:

تصنيفات