تجاهلت الحكومات الغربية، خلال العقود التي تلت الحرب الباردة، مسألة ضعف الجيوش الأوروبية، بسبب اعتماد حلف شمال الأطلسي "الناتو" وسياسات الدفاع الأوروبية، على القوة العسكرية الهائلة التي تمتلكها الولايات المتحدة، لكن القلق تزايد بعد ما يقرب عامين من القتال الدامي في أوكرانيا واتخاذ واشنطن موقفاً أكثر انعزالية، وعودة ظهور التهديد المحتمل الذي تشكله روسيا على أوروبا.
وقالت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، الاثنين، إن روسيا لا تمثل خطراً مباشراً على أوروبا، إذ يشير القادة العسكريين والسياسيين الغربيين إلى أن موسكو في الوقت الحالي مقيدة، بسبب حرب الاستنزاف التي تشنها على أوكرانيا.
وذكرت الصحيفة، أن قلّة شككوا في قدرة روسيا على إعادة تسليح نفسها بشكل كامل، خلال 3 إلى 4 سنوات، وإثارة مشكلات في أماكن أخرى، إذا انتصرت على أوكرانيا، في نهاية المطاف.
وأشارت الصحيفة الأميركية، إلى شعور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بالحزن على ضياع إمبراطورية روسية التي تشمل أوكرانيا ودول أخرى في أوروبا الشرقية، من بينها دول البلطيق (لاتفيا وليتوانيا وإستونيا).
وضعفت بشكل كبير قدرة أوروبا على إنتاج الأسلحة، بسبب تخفيض الميزانيات على مدى سنوات، ما يعد تحدياً في وقت تواجه فيه معظم الحكومات قيوداً مرتبطة بالميزانيات في ظل تباطؤ اقتصادي وشيخوخة السكان، فضلاً عن المعارضة السياسية الكبيرة لتخفيض الإنفاق في مجال الرعاية الاجتماعية لتمويل الدفاع.
ورأى أنتوني كينج، أستاذ دراسات الحرب في جامعة "وارويك" البريطانية، أن أوروبا "جردت نفسها من السلاح بشكل تدريجي، لأنها لم تكن بحاجة إلى إنفاق الأموال، ولعدم وجود تهديد واضح والهيمنة العسكرية الأميركية في جميع أنحاء العالم".
واعتبرت "وول ستريت جورنال"، أن الحرب في أوكرانيا أوضحت عمق المشكلة، إذ قال الأمين العام السابق للناتو، أندرس فوج راسموسن: "على الرغم من أن القوة الاقتصادية والصناعية المشتركة لدول (الناتو) تفوق قوة روسيا وحلفائها، نحن من سمحنا لأنفسنا بالتخلف في الإنتاج".
وأضاف: "أوكرانيا تخوض الآن حرب استنزاف، وإذا لم نتعامل بجدية مع إنتاج الذخيرة، فمن المرجح أن يقترب خطر الحرب منا أكثر".
نقص المخزون
وأعاد الرئيس الأميركي جو بايدن، تأكيده على دعم الولايات المتحدة الراسخ للناتو، مشدداً على أن الحلف "أقوى من أي وقت مضى"، لكن الرئيس السابق دونالد ترمب يشكك بشكل متكرر في قيمة الحلف.
وعلى الرغم من دعمه بند الدفاع المشترك في ميثاق الحلف، اختلف ترمب مع قادة الناتو، على مسألتي التمويل وأعداد القوات الأميركية المتواجدة في المنطقة.
ويحث قادة الحزبين الديمقراطي والجمهوري، أوروبا منذ وقت طويل على إنفاق المزيد من الأموال على الدفاع، بحسب "وول ستريت جورنال" التي قالت إن الجهود الرامية إلى إقرار مساعدات أميركية جديدة لأوكرانيا واجهت معارضة من الجمهوريين في الكونجرس، وأن القتال في غزة جذب التركيز السياسي للولايات المتحدة بعيداً عن أوكرانيا.
وقال البيت الأبيض، إن الولايات المتحدة لن تتمكن من الاستمرار في تقديم المزيد من الأسلحة والمعدات إلى أوكرانيا، إذا لم يعتمد الكونجرس مزيداً من الأموال بحلول نهاية العام.
وتعهدت الدول الأوروبية بتقديم مساعدات بمليارات الدولارات لكييف، لكنها قالت إنها تواجه معوقات اقتصادية وقيوداً على إنتاج الأسلحة، في حين لا تمتلك أوروبا المخزون اللازم لتعويض النقص إذا تراجعت الولايات المتحدة عن تقديم الجزء الأكبر من المساعدات، كما أنها لن تتمكن من إعادة إمداد أوكرانيا وإعادة بناء قواتها.
وقال رئيس اللجنة العسكرية في الناتو، الأميرال روب باور، في وقت سابق، إن أوروبا تستطيع الآن رؤية "أسوأ وضع ممكن" في ما يتعلق بما يمكن تقديمه لأوكرانيا.
واستبعدت "وول ستريت جورنال"، أن يفي الاتحاد الأوروبي بوعده بتزويد كييف بمليون قذيفة مدفعية بحلول الربيع المقبل، موضحةً أن الاتحاد لم يقدم سوى ربع هذه الكمية حتى الآن.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين غربيين وتصريحات للحكومة الروسية قولهم، إن كوريا الشمالية قدمت أكثر من مليون قذيفة إلى روسيا في نفس الفترة.
وقال مسؤولون أوكرانيون، إنهم لن يتمكنوا من مواصلة الحملة العسكرية، المتعثرة بالفعل، لاستعادة الأراضي المفقودة إذا توقفت المساعدات تماماً، وإنهم قد لا يتمكنون من صد الوحدات الروسية المدعومة من دولة أكبر بكثير تمتلك احتياطي أكبر من القوى البشرية.
انخفاض الإنفاق العسكري
وانخفض الإنفاق العسكري لدول الناتو، من نحو 3% من الميزانية السنوية خلال فترة الحرب الباردة إلى 1.3% تقريباً بحلول عام 2014، وفقاً لبيانات الحلف. وبدأت الأمور تتغير بعد الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم عام 2014، ولكن ببطء بحسب الصحيفة.
وارتفع الإنفاق الدفاعي في الاتحاد الأوروبي بنسبة 20% في العقد الماضي، وفقاً للبرلمان الأوروبي. وفي نفس الفترة، ارتفعت الميزانية الدفاعية لروسيا والصين بنسبة 300% و600% على التوالي.
واعتبرت "وول ستريت جورنال"، أن ضعف الجيوش الأوروبية يمثل تحولاً هائلاً بالنسبة لقارة كانت تتفاخر بامتلاك أفضل القوات المسلحة في العالم، منذ أوائل القرن السادس عشر وحتى أربعينيات القرن العشرين.
ويبلغ قوام الجيش الألماني في الوقت الحالي 180 ألف جندي، بينما كان يضم في نهاية الحرب الباردة نصف مليون جندي في ألمانيا الغربية و300 ألف جندي في ألمانيا الشرقية.
وكانت ألمانيا الغربية وحدها تمتلك أكثر من 7000 دبابة قتالية بحلول ثمانينيات القرن الماضي، بينما تمتلك ألمانيا الموحدة الآن 200 دبابة فقط، ومن المرجح أن يكون نصفها جاهزاً للعمل، حسب ما نقلته الصحيفة عن مسؤولين في الحكومة.
وأضاف المسؤولون أن القدرات الصناعية لألمانيا لا يمكنها إنتاج سوى 3 دبابات شهرياً تقريباً، كما ذكرت مفوضة الجيش الألماني في البرلمان، إيفا هوجل، أثناء عرض نتائج تقريرها في وقت سابق من هذا العام أن "القوات المسلحة تفتقر إلى كل شيء، وأن القواعد العسكرية الألمانية لا تفتقر إلى الأسلحة والذخيرة فحسب، بل أيضاً إلى دورات المياه والإنترنت".
وحلت هولندا آخر وحدة دبابات لديها في عام 2011، وضمت الدبابات القليلة المتبقية إلى الجيش الألماني. وأُلْغِي التجنيد الإلزامي في معظم الدول الأوروبية بعد الحرب الباردة.
وحالياً، تُصنف روسيا، والصين، والهند كقوى عسكرية أقوى من بريطانيا، والتي تحتل المرتبة الأولى في قائمة أقوى الجيوش الأوروبية. كما تحتل كوريا الجنوبية، وباكستان، واليابان مرتبة أعلى من فرنسا، والتي تمتلك ثاني أقوى جيش في أوروبا، وفقاً لموقع "جلوبال فايرباور" المختص في الشؤون العسكرية.
وتمتلك كوريا الجنوبية جيشاً يبلغ قوامه نصف مليون فرد، مثل بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا. كما تمتلك صناعة عسكرية متقدمة تساعد في تسليح بولندا، بحسب "وول ستريت جورنال".
"مكافحة التمرد"
وفي عام 2014، وافق الحلفاء في الناتو، على زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي في غضون 10 سنوات، ومن المتوقع أن تحقق 11 دولة فقط من الدول الأعضاء، البالغ عددهم 31 دولة، هذا الهدف.
وكانت الحروب في أفغانستان والعراق، بالإضافة إلى تخفيض الميزانيات العسكرية، قد أدت إلى جعل تركيز معظم الجيوش الأوروبية منصباً على "مكافحة التمرد" في دول بعيدة وغير مجهزة بشكل جيد لمحاربة عدو مسلح جيداً في حرب برية طاحنة، مثل تلك التي في أوكرانيا.
وفي المقابل، من المتوقع أن يرتفع الإنفاق الروسي على الدفاع إلى 6% من ناتجها المحلي الإجمالي العام المقبل، مقارنة بـ3.9% هذا العام، وفقاً لوزارة المالية الروسية.