"فاينانشيال تايمز": الصين جنّدت سياسياً أوروبياً لإثارة انقسامات في الغرب

رسائل تكشف تفاصيل محاولة بكين التلاعب بالمناقشات السياسية عالمياً

time reading iconدقائق القراءة - 10
علم الصين بالقرب من كاميرات مراقبة خارج محكمة في العاصمة بكين. 31 مارس 2022 - REUTERS
علم الصين بالقرب من كاميرات مراقبة خارج محكمة في العاصمة بكين. 31 مارس 2022 - REUTERS
دبي -الشرق

كشفت صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية، أن أجهزة الاستخبارات الصينية، جندت سياسياً بلجيكياً من اليمين المتطرف على مدى أكثر من 3 سنوات من أجل قضايا بعينها، قالت إنها تُظهِر كيف تجري بكين عمليات تأثير في أوروبا لمحاولة تشكيل السياسة هناك لصالحها.

وأضافت الصحيفة، في تقرير نشرته الجمعة، أن دانييل وو، وهو ضابط في وكالة الاستخبارات التابعة لوزارة أمن الدولة الصينية، ضغط على فرانك كريلمان، عضو مجلس الشيوخ البلجيكي السابق، للتأثير على المناقشات في أوروبا بشأن عدد من القضايا، مثل ما وصفته بـ"قمع الصين للديمقراطية" في هونج كونج، واضطهادها للأقلية في شينجيانج.

ووفقاً للصحيفة، فإنه قبل زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز إلى الصين في أواخر 2022، طلب دانييل وو من كريلمان، إقناع اثنين من الأعضاء اليمينيين في البرلمان الأوروبي بالقول علناً إن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تعملان على تقويض أمن الطاقة في أوروبا، وكتب الضابط الصيني في رسالة نصية إلى كريلمان: "هدفنا هو إحداث انقسام في العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا".

وقالت الصحيفة إنه جرى توثيق العلاقة بين الضابط الصيني وما وصفته بـ"عميله البلجيكي" من خلال رسائل نصية متبادلة بينهما منذ عام 2019 إلى أواخر 2022، والتي جرى الحصول عليها من مصدر أمني غربي، لم تكشف عنه، في تحقيق مشترك أجرته مع صحيفتي "دير شبيجل" الألمانية، و"لوموند" الفرنسية.

"مصدر قلق متزايد"

وأشارت الصحيفة إلى أن الرسائل المتبادلة بين الطرفين تكشف بتفاصيل واضحة، كيف تحاول الاستخبارات الصينية التلاعب بالمناقشات السياسية في جميع أنحاء العالم لصالح بكين، وهو الأمر الذي تشير إليه المؤسسات الأمنية الغربية باعتباره "مصدر قلق متزايد".

وأوضحت "فاينانشيال تايمز" أنه بينما تنخرط معظم الدول الكبرى في عمليات التجسس، فإن العملية المذكورة في التقرير تسلط الضوء على إحدى "السمات المميزة" لعمليات التجسس الصينية، وهي ممارسة عمليات التأثير واسعة النطاق التي تهدف إلى تشكيل النقاش السياسي الممتد عبر أوتاوا ولندن وكانبيرا. 

وكانت واشنطن حذّرت مراراً وتكراراً من جهود بكين "السرية" للتدخل في الانتخابات الأميركية، ويقول أليكس جوسكي، وهو مستشار لدى مؤسسة "ماكجراث نيكول" ومؤلف كتاب "جواسيس وأكاذيب": "لقد أمضت وزارة أمن الدولة الصينية عقوداً في محاولة تشكيل السياسة والخطاب العالمي بشأن بكين، وتمثل عملية تجنيد الأكاديميين وصناع السياسات وقادة الأعمال، وحتى السياسيين، والتلاعب بهم، كما تُظهِر هذه القضية، جزءً من هذا الجهد".

ووفقاً لما نقلته الصحيفة عن مسؤولي الاستخبارات من 4 دول غربية، لم تكشف عن هويتهم، فإن دانييل وو يعمل من فرع تشجيانج التابع لوزارة أمن الدولة الصينية، كما أن وكالات الاستخبارات الغربية تعقبته، وهو يعمل في بولندا ورومانيا أيضاً.

وفي إحدى المحادثات المتبادلة التي تمت بين الضابط الصيني وكريلمان في عام 2021، قال دانييل وو إنه قد كُلِّف بـ"مهاجمة أدريان زينز"، وهو الباحث الذي ساعد في الكشف عن احتجاز الصين لمئات الآلاف من الأقليات في شينجيانج.

قضايا تايوان و"كوفيد-19"

كما طلب دانييل وو من كريلمان المساعدة في تعطيل مؤتمر بشأن جزيرة تايوان، وناقش الاثنان دفع أموال لوسيط للتأثير على كاردينال كاثوليكي من أجل القيام بالتحذير من تسييس وباء "كوفيد-19"، وذلك في الوقت الذي كانت تتعرض فيه بكين إلى ضغوط بشأن خروج الفيروس من ووهان.

ونقلت الصحيفة عن مسؤولين سابقين في الاستخبارات الأميركية لديهم خبرة في عمليات وزارة أمن الدولة الصينية، والذين تم اطلاعهم على المحادثات بين وو وكريلمان، قولهم إن الرسائل المتبادلة بينهما تحمل بصمات عملية التأثير السياسي الكلاسيكية التي عادةً ما تقوم بها الوزارة الصينية.

ويقول دينيس وايلدر، وهو كبير محللي الشؤون الصينية السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA: "المحادثات المتبادلة بينهما تعكس هوس الوزارة الصينية بفكرة أن واشنطن هي التي حرضت على الاحتجاجات في هونج كونج، ورغبتها المستمرة في البحث عن فرص لتعطيل المؤتمرات والفعاليات المؤيدة لتايبيه في بلدان ثالثة، وكذلك مهمتها المتمثلة في تشويه سُمعة أولئك الذين ينشرون التقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان في شينجيانج".

ويقول بيتر ماتيس، وهو محلل سابق في CIA إن "هذه العملية تكشف أيضاً سمة من سمات الاستخبارات، وهي منحها الاستقلالية لفروعها الإقليمية"، مشيراً إلى أن "هذه القضية تُظهِر أن بكين ووزارة أمن الدولة توجهان فقط، ولكن الضباط ومصادرهم يعملون معاً على كيفية تحقيق الأهداف".

وذكر أحد عملاء CIA السابقين في شؤون أوروبا إن "ضباط الوزارة الصينية عادةً ما يميلون إلى التركيز على تجنيد أو اختيار السياسيين ذوي المكانة الأدنى في القارة، والذين عادةً ما يتعاطفون مع قضايا الصين، أو يستفيدون من سخائها"، مضيفاً: "يتمكن هؤلاء السياسيون من الوصول إلى كبار المسؤولين، ويتناقشون معهم في مواضيع حساسة بشكل منتظم، ثم يشاركون المعلومات التي حصلوا عليها مع الوزارة الصينية، سواء عن قصد أو غير قصد".

"تفسير المحادثات المشبوهة"

وقالت الصحيفة إن إحدى المحادثات المتبادلة بين "وو" وكريلمان كشفت عن هذه الاستراتيجية بشكل صارخ، إذ أشار الضابط الصيني في إحدى الرسائل إلى الجهود السابقة لاستهداف مارتن سيلماير، الأمين العام السابق للمفوضية الأوروبية، والذي كان من بين أهم المسؤولين في بروكسل. 

وأضافت الصحيفة أنه لا يوجد دليل على أن بكين قد نجحت في هذا المسعى، كما نفى سيلماير، الذي يشغل حالياً منصب رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي في النمسا، بشدة أن يكون على عِلم بهذا الأمر، مضيفاً أنه ليس من مسؤولياته "تفسير المحادثات المشبوهة بين الأشخاص ذات الطبيعة المشكوك فيها بشكل واضح".

ولفتت الصحيفة إلى أنه من غير الواضح كيف ومتى تم تجنيد كريلمان، ولكنها قالت إنه يبدو أن علاقته بالضابط الصيني كانت تتم عن بُعد، باستثناء قيامه برحلة إلى سانيا، وهي مدينة شاطئية في جزيرة هاينان، في عام 2019، للقاء الضابط المسؤول عنه.

وكان كريلمان من قدامى أعضاء الحركة القومية الفلمنكية اليمينية المتطرفة في بلجيكا منذ عام 1977، وقد خدم في مجلس الشيوخ الفيدرالي من عام 1999 إلى عام 2007 وهو الآن عضو فخري في البرلمان الفلمنكي.

ويقول نايجل إنكستر، وهو رئيس العمليات السابق في جهاز الاستخبارات البريطاني "إم آي 6" وخبير في العمليات الاستخباراتية الصينية، إن وزارة أمن الدولة الصينية أجرت معظم عمليات تجسسها من خلال الإدارات الإقليمية، لافتاً إلى أن مقاطعة تشجيانج كانت تدير أغلب العمليات التي أجريت في أوروبا.

وقال مصدر استخباراتي غربي، لم تكشف الصحيفة عن هويته، إن الإدارة التابعة للوزارة الصينية في مقاطعة تشجيانج بشرق الصين تضم ما يقدر بنحو 5 آلاف ضابط مخابرات، وعادةً ما يجتمعون في سانيا.

ويقول إنكستر، الذي يعمل الآن في شركة "إينودو إيكونوميكس" الاستشارية: "تتمتع الصين بقدرة بشرية وإلكترونية كبيرة على جمع المعلومات في بروكسل، والتي يُنظر إليها على أنها بيئة غنية بالأهداف، بسبب تركز وجود المنظمات الدولية فيها، بما في ذلك المفوضية الأوروبية وحلف شمال الأطلسي (الناتو)".

التركيز على بروكسل

ويقول العميل السابق لـCIA الذي تحدث إلى الصحيفة، إن وزارة أمن الدولة الصينية تميل إلى العمل في أوروبا، لأنها ترى أن عواقب اكتشاف عملياتها هناك أقل خطورة مما هي عليه في الولايات المتحدة، ويقول أحد كبار ضباط المخابرات الغربية السابقين للصحيفة إن "بروكسل كانت موضع تركيز خاص من قبل بكين، لأن أجهزتها الأمنية لم يكن لديها الموارد الكافية، ولذا أصبحت بلجيكا مركزاً رئيسياً للعمليات الاستخباراتية من قبل مجموعة متنوعة من الدول المعادية، بسبب سهولة العمليات هناك".

ومن جانبه، قال متحدث باسم الحكومة البلجيكية إن السلطات المعنية على عِلم بقضية كريلمان، لكنه لم يدل بمزيد من التفاصيل. 

وتضمنت المحادثات المتبادلة بين "وو" وكريلمان الحديث عن الأمور المالية مرات عدة، بما في ذلك المبالغ، التي سيدفعها له أو لآخرين مقابل الحصول على خدماتهم، كما أنه في مرحلة ما، قام الضابط الصيني بتعليم كريلمان كيفية استخدام تطبيق لتحويل العملة المشفرة. 

ولكن يبدو أن كريلمان لم يحقق نجاحاً كبيراً في إنجاز المهام التي طلبها منه وو في الرسائل المتبادلة بينهما، إذ إنه في يونيو 2021، على سبيل المثال، اعترف بأنه حاول معارضة قرار في البرلمان البلجيكي للإعلان بأن الأويجور معرضون لخطر الإبادة الجماعية، ولكنه لم ينجح في الأمر.

وفي عام 2019، طلب وو من كريلمان الترتيب لنشر مقال يعارض الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية في هونج كونج، وقال الأخير إنه يمكنه أن يدفع لصحفي مستقل للقيام بذلك، ولكنه سيتقاضى ما لا يقل عن 2000 يورو نظير هذه المهمة.

ونقلت "فاينانشيال تايمز" عن الصحافي المقيم في بروكسل، جيمس ويلسون، قوله إن كريلمان اتصل به بالفعل من أجل "العمل على شيء يخص الصين" لكنه رفض الأمر، وأضاف: "كتابة المقالات مقابل الحصول على أجر هو أمر يتعارض مع مبادئي".

وفي الرسالة الأخيرة التي تم الحصول عليها، قال وو لكريلمان إنه يعتمد عليه لإقناع اثنين من أعضاء حزب "فلامس بيلانج" في البرلمان الأوروبي، وهما توم فانديندريش وفيليب دي مان، لإصدار بيانات قبل زيارة شولتز إلى بكين، قائلاً: "لقد واجهت بعض المشاكل في العمل على قنوات أخرى، ولذا فأنا أعول الآن على أعضاء البرلمان الأوروبي لجلب أخبار جيدة"، ولكن لم يتبع ذلك أي تصريحات من النواب، وقال فانديندريش إنه لم يجر أي مناقشات مع كريلمان حول هذه المسألة، فيما رفض دي مان التعليق على الأمر.

وقالت الصحيفة إنها لم تتمكن من الوصول إلى الضابط الصيني عبر أرقام هواتف وعناوين بريد إلكتروني متعددة استخدمها، فيما قالت السفارة الصينية في بروكسل إنها ليس لديها عِلم بهذه القضية، ولم يرد كريلمان على محاولات التواصل معه عبر الرسائل النصية والهاتف والبريد الإلكتروني للحصول على تعليق.

تصنيفات

قصص قد تهمك