على مدى أكثر من 10 سنوات، عملت الولايات المتحدة على تعزيز شراكة مخابراتية سرية مع أوكرانيا، أصبحت الآن حاسمة لكلا البلدين في مواجهتهما لروسيا، بحيث باتت هذه الشراكة، وفقاً لصحيفة "نيويورك تايمز"، تُمثل ركيزة أساسية في قدرة كييف على الدفاع عن نفسها.
وبحسب تقرير نشرته الصحيفة، الأحد، تُزوّد وكالات المخابرات الأميركية وعلى رأسها CIA، أوكرانيا، بالمعلومات الاستخباراتية اللازمة لتنفيذ الضربات الصاروخية الموجهة، وتتبّع تحركات القوات الروسية، وتساعد في دعم شبكات التجسس.
وترسخت هذه الشراكة قبل 10 سنوات، وتشكّلت في فترات متقطعة خلال عهود 3 رؤساء أميركيين مختلفين للغاية، ونمت على يد شخصيات بارزة عادة ما كانت تقوم بمغامرات جريئة.
وعلى الرغم من أنه لطالما نُظر إلى وكالات الاستخبارات الأوكرانية على أنها مخترقة بشكل كامل من قبل روسيا، إلا أن هذا التعاون مع الولايات المتحدة جعل البلد الواقع شرق أوروبا أحد أهم الشركاء الاستخباراتيين لواشنطن في مواجهة الكرملين بالوقت الحالي.
وأشارت "نيويورك تايمز" إلى وجود خندق مُحصن تحت الأرض في غابة كثيفة يذهب إليه الجنود الأوكرانيون عبر ممر سري، بحيث تعمل فرق منهم على تتبع أقمار التجسس الصناعية الروسية، والتنصت على المحادثات الصوتية بين القادة الروس.
كما يُعد هذا الخندق، الذي بُني ليحل محل مركز القيادة الذي دمرته الهجمات الروسية خلال الأشهر التالية للغزو، أحد مواقع قيادة الجيش الأوكراني، كما يُشكلّ جزءاً من شبكة قواعد تجسس أُنشئت بدعم أميركي في السنوات الـ8 الماضية، وتضم 12 موقعاً سرياً على طول الحدود الروسية.
وحتى قبل الغزو الروسي، استطاع الأوكرانيون إثبات قدراتهم للأميركيين، وتحديداً في ما يتعلق بجمع المعلومات من عمليات الاعتراض، والتي ساعدت في إثبات تورط موسكو بإسقاط طائرة الرحلة "MH- 17" التابعة للخطوط الجوية الماليزية، إضافة إلى مساعدة الأميركيين على ملاحقة العملاء الروس الذين تدخلوا في السباق إلى الرئاسي إلى البيت الأبيض في عام 2016.
"كادت أن تنهار"
في العام 2016، بدأت CIA بتدريب قوة كوماندوز خاصة تعرف باسم "الوحدة 2245"، والتي استطاعت الاستيلاء على طائرات مُسيرة ومعدات اتصالات روسية ليتمكن الأخصائيون التقنيون بالوكالة من فحصها، واختراق أنظمة التشفير في موسكو. وكان كيريلو بودانوف، الذي يشغل الآن منصب قائد الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، أحد ضباط الوحدة 2245، وفقاً للصحيفة.
كما ساعدت وكالة المخابرات المركزية الأميركية في تدريب جيل جديد من الجواسيس الأوكرانيين الذين عملوا داخل روسيا، وفي جميع أنحاء أوروبا، وغيرها من الأماكن التي يتواجد فيها الروس بشكل كبير.
الصحيفة ذكرت أن العلاقة الاستخباراتية بين الولايات المتحدة وأوكرانيا متأصلة لدرجة أن ضباط وكالة المخابرات المركزية بقوا في مكان بعيد غرب أوكرانيا عندما أجلت إدارة الرئيس جو بايدن، الموظفين الأميركيين خلال الأسابيع السابقة للغزو الروسي في فبراير 2022.
ونقل الضباط الأميركيون معلومات استخباراتية حساسة خلال الحرب، بما في ذلك الأماكن التي كانت روسيا تُخطط لضربها وأنظمة الأسلحة التي ستستخدمها. وقال إيفان باكانوف رئيس جهاز الأمن الأوكراني SBU آنذاك: "لولاهم، كان من المستحيل أن نقاوم الروس أو نتغلب عليهم".
ووصفت "نيويورك تايمز" تفاصيل هذه الشراكة الاستخباراتية بأنها كانت "سراً محاطاً بكتمان شديد"، لافتةً إلى أنها أجرت أكثر من 200 مقابلة مع مسؤولين حاليين وسابقين في أوكرانيا، والولايات المتحدة، وأوروبا، وأن جميع المسؤولين تحدثوا بشرط عدم الكشف عن هويتهم لمناقشة معلومات استخباراتية ومسائل دبلوماسية حساسة.
وقال المسؤولون إن الشراكة بين البلدين كادت أن تنهار بسبب انعدام الثقة بينهما قبل أن تتوسع بشكل مطرد، إذ تحولت أوكرانيا إلى مركز لجمع المعلومات الاستخبارية، واستطاعت اعتراض اتصالات روسية كثيرة كانت تفوق قدرة الوحدة التابعة لوكالة المخابرات المركزية الأميركية في كييف على معالجتها في البداية.
عندما التقى برئيس إحدى وكالات التجسس الرئيسية الروسية قبل نهاية 2020، كان فلاديمير بوتين يُفكر في ما إذا كان سيشن هجوماً شاملاً، لكن رئيس الوكالة المحلية قال له إن المخابرات المركزية الأميركية وجهاز الاستخبارات البريطاني MI6 كانا يُسيطران على أوكرانيا ويعملان على تحويلها إلى نقطة انطلاق للعمليات ضد موسكو، وفقاً لمسؤول أوروبي كبير.
إلا أن التحقيق الذي أجرته "نيويورك تايمز"، وجدَ أن بوتين ومستشاريه أخطأوا في فهم مسألة حاسمة، وهي أن وكالة المخابرات المركزية لم تشق طريقها إلى كييف، إذ كثيراً ما كان المسؤولون الأميركيون يترددون في المشاركة بشكل كامل خوفاً من أن يكون نظرائهم الأوكرانيين غير جديرين بالثقة أو استفزاز الكرملين.
مع ذلك، كانت هناك دائرة ضيقة من مسؤولي مخابرات كييف تتودد بدأب إلى وكالة المخابرات المركزية، وجعلوا أنفسهم تدريجياً ذوي أهمية بالغة للأميركيين.
بداية حذرة
يُمكن إرجاع الشراكة التي أقامتها وكالة المخابرات المركزية الأميركية في أوكرانيا إلى مكالمتين هاتفيتين أجريتا مساء 24 فبراير 2014، أي قبل 8 سنوات من اليوم الذي سبق الغزو الروسي الشامل.
وبحسب الصحيفة الأميركية، كان الملايين من الأوكرانيين في ذلك الوقت قد اجتاحوا الحكومة الموالية للكرملين في البلاد، ما دفع الرئيس فيكتور يانوكوفيتش ورؤساء أجهزة الاستخبارات إلى الفرار باتجاه روسيا. وفي خضم تلك الاضطرابات، استولت حكومة هشة مؤيدة للغرب على السلطة بسرعة.
وبعد ذلك، تواصل فالنتين ناليفايتشينكو، رئيس الاستخبارات في الحكومة الجديدة، برئيس الوحدة التابعة لوكالة المخابرات المركزية الأميركية ورئيس وحدة MI6 البريطانية في أوكرانيا، واستدعاهما إلى مقر وكالة استخباراتية محلية، حيث طلب المساعدة في إعادة بناء جهاز المخابرات من البداية، واقترح إقامة شراكة ثلاثية.
ونقلت الصحيفة عن ناليفايتشينكو قوله: "هكذا بدأ كل شيء".
وسرعان ما أصبح الوضع أكثر خطورة مع استيلاء بوتين على شبه جزيرة القرم في 2014، وقيام عملاؤه بإثارة التمردات الانفصالية التي تحولت إلى حرب شرق البلاد، بحسب "نيويورك تايمز".
وطلب ناليفايتشينكو من وكالة المخابرات المركزية الأميركية تزويد أوكرانيا بصور ملتقطة بالأقمار الصناعية وغيرها من المعلومات الاستخبارية لمساعدتها في الدفاع عن أراضيها.
ومع تصاعد العنف، هبطت طائرة حكومية أميركية لا تحمل أي علامات مميزة في أحد مطارات كييف، وكان على متنها جون برينان، مدير وكالة المخابرات المركزية آنذاك. وقال برينان لناليفايتشينكو إن الوكالة مهتمة بإقامة علاقة، لكن بالوتيرة التي تريدها، وفق ما نقلت "نيويورك تايمز" عن مسؤولين أميركيين وأوكرانيين.
وبالنسبة لوكالة المخابرات المركزية CIA، كان الغموض يكمن في المدة التي كان سيمكثها ناليفايتشينكو والحكومة الموالية للغرب في الحكم.
وأوضح برينان للأوكرانيين أنهم يجب أن يُثبتوا قدرتهم على تقديم معلومات استخباراتية ذات قيمة للأميركيين، وأن يتخلصوا من الجواسيس الروس، الذين كانوا يملؤون جهاز الأمن الأوكراني، ليحصلوا على مساعدة الوكالة.
وأشارت الصحيفة إلى إحدى الوقائع التي تؤكد وجود جواسيس روس في أوكرانيا، إذ نشرت المنافذ الدعائية للكرملين صورة معدلة يظهر فيها برينان مرتدياً شعر مهرج مستعار، وذلك بعد وقت قصير من علم الروس بزيارة مدير الوكالة الأميركية، والتي يفترض أن تكون سرية.
وعاد برينان إلى واشنطن، حيث كان مستشارو الرئيس الأسبق باراك أوباما يشعرون بقلق شديد من أن يكونوا قد استفزوا موسكو. ووضع البيت الأبيض قواعد سرية أثارت غضب الأوكرانيين.
ووصف البعض داخل وكالة المخابرات المركزية هذه القواعد بأنها "أصفاد". ومنعت القواعد الجديدة وكالات الاستخبارات من تقديم أي دعم لأوكرانيا من شأنه أن يكون له عواقب مهلكة، بحسب الصحيفة.
توتر في عهد ترمب
أدى انتخاب دونالد ترمب في نوفمبر 2016 إلى وضع الأوكرانيين وشركائهم في وكالة المخابرات المركزية في حالة من التوتر.
وما أثار القلق تجاه سياسة الرئيس الجديد تجاه الصراع الروسي الأوكراني إشادة ترمب ببوتين في أكثر من مناسبة، ورفضه الاتهامات التي لاحقت موسكو بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
وذكرت الصحيفة أن الرئيس الجمهوري السابق "كان متشككاً بشأن أوكرانيا، وحاول لاحقاً الضغط على رئيسها (فولوديمير زيلينسكي)".
لكن بغض النظر عما كان يقوله أو يفعله ترمب، ذهبت إدارته غالباً في الاتجاه الآخر. وذلك في ضوء اختيار شخصيات حازمة تجاه روسيا في إدارته على غرار وزير الخارجية مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي جون بولتون، الذين زاروا كييف للتأكيد على دعمهم الكامل للشراكة السرية التي توسعت لتشمل المزيد من برامج التدريب المتخصصة وبناء قواعد سرية إضافية.
لعبة لا نهاية لها
بعد يوم 24 فبراير 2022 كان الوجود الرسمي الوحيد للولايات المتحدة في أوكرانيا يتمثل في عدد من ضباط وكالة المخابرات المركزية.
وبحسب ما ذكرت "نيويورك تايمز"، كان هؤلاء الضباط يجرون اجتماعات يومية مع مصادرهم من الاستخبارات الأوكرانية لاستقاء المعلومات، وقد أذن البيت الأبيض في عهد بايدن لوكالات التجسس بتقديم الدعم الاستخباراتي للعمليات المعادية للقوات الروسية على الأراضي الأوكرانية.
وقال مسؤول أوكراني كبير إنه "في حالة واحدة على الأقل، شاركت وكالة المخابرات المركزية الأميركية معلومات مع نظيرتها الأوكرانية، ما ساعد في إحباط مخطط لاغتيال الرئيس فولوديمير زيلينسكي.
وفي غضون أسابيع، أرسلت CIA إلى كييف عشرات الضباط الجدد لمساعدة الأوكرانيين، وانتشر بعضهم في القواعد العسكرية الأوكرانية
وتلقى الكثير من أعضاء الاستخبارات الأوكرانية تدريبات على يد خبراء من الاستخبارات الأميركية والبريطانية على تجنيد الجواسيس وبناء شبكات سرية.
كما قامت وكالة المخابرات المركزية الأميركية ببناء قاعدتين سريتين أخريين لاعتراض الاتصالات الروسية، للعمل ضمن منظومة تضم 12 قاعدة عمليات أمامية.
ونقلت الصحيفة عن ضابط أوكراني كبير قوله إن السؤال الذي يطرحه بعض ضباط الاستخبارات الأوكرانية حالياً على نظرائهم الأميركيين ما إذا كان سيتم وقف التمويل وبالتالي خسارة مليارات الدولارات من المساعدات، لاسيما في ظل الجدل الدائر داخل مجلس النواب الذي يدرس فيه الجمهوريين إمكانية الموافقة على استمرار دعم كييف.
ورأى الضابط أن ذلك "حدث في أفغانستان من قبل، وسيحدث الآن في أوكرانيا".
لكن أحد مسؤولي وكالة المخابرات المركزية الأميركية تحدث للصحيفة عن زيارة مدير وكالة المخابرات المركزية ويليام بيرنز إلى كييف قبل نحو أسبوع، وعلّق قائلاً: "لقد أظهرنا التزاماً واضحاً تجاه أوكرانيا على مدى سنوات عديدة، وكانت هذه الزيارة بمثابة إشارة قوية أخرى إلى أن التزام الولايات المتحدة سيستمر".