فرضت التوترات الأمنية في الشرق الأوسط، على وقع الحرب الإسرائيلية على غزة، على الولايات المتحدة أن تزيد عدد قواتها وآلياتها العسكرية في المنطقة، حيث حركت مدمراتها فوراً دعماً لحليفتها الأقرب من جهة، ولتبعث رسالة إلى من يفكر التورط في هذا الصراع من جهة أخرى، إلا أنه بعد مرور عام، بدأ القلق يتسلل إلى البعض في "الكونجرس" ووزارة الدفاع الأميركية "البنتاجون" بشأن التكاليف المادية لهذا الانتشار في حالة استمرار الصراع.
وبحسب موقع Defense News، فإنه عندما أوشكت الأوضاع على اندلاع حرب إقليمية شاملة إثر اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران، في آخر يوليو الماضي، كان وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في جولة إلى موقع كان سابقاً قاعدة بحرية لبلاده في خليج سوبيك الفلبيني، مؤكداً أهمية وأولوية المنطقة للولايات المتحدة، إلا أن التصعيد في الشرق الأوسط سرعان ما استولى على اهتمام الرجل، ليمضي ساعات في محاولة احتواء الأزمة على متن رحلة العودة إلى واشنطن.
وكثيراً ما أصر البنتاجون، على أن زيادة عدد قواته حال دون انزلاق الشرق الأوسط إلى الفوضى، وصرّح أوستن للصحافيين: "سنبذل كل ما في وسعنا للتأكد من أننا نمنع الأمور من التحول إلى صراع أوسع نطاقاً".
ونقل الموقع عن مسؤولي دفاع حاليين وسابقين وموظفين في الكونجرس، سُمح للعديد منهم بالتحدث دون كشف هوياتهم، أنه كلما استمرت الأزمة لفترة أطول، "كلما اضطر البنتاجون إلى المقايضة بين الاحتياجات العاجلة للشرق الأوسط والتحديات المتزايدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ".
جبهات مشتعلة
ازداد الضغط على الجيش الأميركي بشكل أكبر هذا الأسبوع، بعد تصعيد إسرائيل لهجماتها على لبنان، والتي تعد الأعنف منذ ما يقارب 20 عاماً.
وفي وقت سابق، أمر أوستن مرة أخرى بإرسال المزيد من القوات إلى المنطقة، لتنضم الدفعة الجديدة إلى 40 ألف جندي آخرين هناك، أي أكثر من المعتاد بنحو 6 آلاف جندي. وقد تتبعه حاملة طائرات أخرى قريباً.
وقال أحد كبار مساعدي الكونجرس: "لقد وقعنا في هذا المستنقع الذي لا ينتهي، واضطررنا إلى تحويل المزيد من الموارد، ونحن بذلك نُستنزف من الخلف".
وعلى مدى السنوات العديدة الماضية، لم يكن التركيز منصباً على القوات الأميركية في الشرق الأوسط، حيث كانت الأولوية للخصوم في أوروبا والمحيط الهادئ، إلا أن ذلك الوضع انقلب تماماً بعد الحرب على غزة، إذ أودت الغارات الإسرائيلية المستمرة على القطاع منذ 7 أكتوبر الماضي، بحياة أكثر من 40 ألف فلسطيني، حيث دفعت هذه الأحداث الولايات المتحدة إلى توجيه أنظارها مجدداً نحو المنطقة.
وفي غضون أسابيع أرسلت الولايات المتحدة حاملتي الطائرات "جيرالد ر. فورد" و"دوايت د. أيزنهاور"، إلى شرق البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، وضاعفت عدد أسراب مقاتلاتها في القيادة المركزية الوسطى "سنتكوم". كما سارعت لإرسال بطاريات دفاع جوي للذود عن قواتها الموجودة بالفعل في المنطقة.
وخلال مؤتمر صحافي في أكتوبر الماضي، حذر مسؤول دفاعي أميركي كبير، قائلاً: "نصيحتنا البسيطة لأولئك الذين قد يسعون إلى استغلال الموقف أو تضخيم الصراع: لا تفعلوا ذلك". وهكذا كانت مهمة الإمدادات الجديدة تتمثل في الدفاع عن إسرائيل وحماية القوات الأميركية في المنطقة.
لكن، وفقاً لتقرير Defense News، ستصبح هذه المهمة أكثر صعوبة كلما طالت الحرب، لا سيما أن جبهة المواجهة اتسعت لتشمل لبنان، بينما يمتلك "حزب الله" أكثر من 130 ألف صاروخ ويخوض مناوشات يومية مع إسرائيل، وجماعة الحوثي في اليمن التي تشن هجمات بالمسيّرات والصواريخ ضد إسرائيل والسفن التجارية في البحر الأحمر، وهو ممر مائي حيوي تتدفق عبره 15% من التجارة العالمية، إلى جانب الفصائل العراقية الموالية لإيران، التي استهدفت إسرائيل ومواقع تمركز القوات الأميركية في العراق وسوريا، حيث لقي في يناير الماضي 3 جنود أميركيين مصرعهم جراء هجوم من هذا القبيل.
ولفت الموقع المتخصص بشؤون الدفاع، إلى أن الضربات الجارية في البحر الأحمر بين التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والحوثيين هو الأطول والأكثر نشاطاً منذ الحرب العالمية الثانية.
ضغط المهمات العسكرية
مع تصاعد التهديدات، تزايد ضغط المهمات على الجيش الأميركي، فبحلول ديسمبر 2023، بدأت الولايات المتحدة عملية "حارس الرخاء"، وهي مهمة متعددة الجنسيات لحماية الشحن في البحر الأحمر. وقد خصصت حاملة طائرات ومدمرات لهذه المهمة.
وفي أبريل الماضي، عندما أطلقت إيران مئات الصواريخ والطائرات المسيرة باتجاه إسرائيل، ساعدت الولايات المتحدة وشركاؤها في اعتراض جميع تلك الهجمات تقريباً.
وفقاً لتقرير Defense News، تتقبّل استراتيجية الدفاع الوطني الأميركية، فكرة أن جيشها لا يستطيع أن يتواجد في كل مكان لمواجهة الأعداء. وبدلاً من ذلك، فإن الخطة تتلخص في وجود قوة متحركة، حيث تراهن الولايات المتحدة أنها تستطيع احتواء الأزمات، سواء في الشرق الأوسط، أو سياسة ردع الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
لكن الخطة الأميركية تتطلب انتهاء هذه الحالات الطارئة في نهاية المطاف، فرغم أشهر من الدبلوماسية المكثفة في المنطقة، فإن إدارة الرئيس جو بايدن تظهر الآن ثقة أقل في التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار. والآن، قد تفتح إسرائيل جبهة جديدة للحرب في لبنان.
وقال الجنرال المتقاعد فرانك ماكينزي، الذي قاد القيادة المركزية الأميركية الوسطى "سنتكوم" حتى عام 2022: "لا يمكنك استخدام الدبلوماسية بدون العمود الفقري للقدرة العسكرية، وهذه الأخيرة لن تكون فعالة بدون رسائل دبلوماسية. احتواء الأزمات يحتاج كليهما، لكن يجب أن يكون هناك استعداد لتحمل الأعباء".
بالنسبة لبعض أعضاء الكونجرس، يسود قلق من أن تشتت مشكلات الشرق الأوسط الانتباه عن منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
ويرى قادة البنتاجون، أنهم يتعاملون مع المخاطر من خلال سحب الأصول العسكرية من منطقة إلى أخرى، حيث سيكون نقل القوات بعيداً عن آسيا علامة على عودة الاستقرار إلى المنطقة، لكن هذه القناعة لا يشاركهم بها قادة الدول الحليفة.
وفي مقابلة خلال أغسطس الماضي، قال وزير الدفاع الفلبيني جيلبرتو تيودورو: "لقد نقلت رسائل للولايات المتحدة مفادها أنه من الأفضل الاستثمار في الردع حيث لا يوجد صراع صريح، بدلاً من التدخل في صراع حيث يوجد صراع بالفعل".
تكاليف أعلى لتجنب فاتورة أكبر
في نظر وزارة الدفاع الأميركية، فإن الفائدة من هذه الاستجابة الضخمة في الشرق الأوسط على مدار العام الماضي، هي احتواء أزمة هددت بإغراق المنطقة بأكملها، ومع ذلك لم تحقق الولايات المتحدة كل ما أرادته.
رغم اعتراض القوات البحرية لتحالف "حارس الرخاء" بانتظام لمسيّرات وصواريخ الحوثيين، إلا أن الهجمات التي تشنها الجماعة المدعومة من إيران لا تزال مستمرة، وقد اختارت معظم شركات الشحن إعادة توجيه رحلاتها بدلاً من المخاطرة بأن تصبح هدفاً. ولا يوجد بعد مؤشرات على أن الجماعة تنوي وقف هجماتها حتى في حال تم التوصل لاتفاق بشأن غزة، وهو أمر يقول مسؤولو "البنتاجون" إنهم ليسوا متأكدين منه.
كما أظهرت المواجهات الأخيرة بين إسرائيل و"حزب الله" في جنوب لبنان، وفقاً للتقرير، أن الولايات المتحدة عالقة أيضاً في الاستجابة للصعود والهبوط في الصراع الإقليمي، وهو ما يشبهه القادة في وزارة الدفاع الأميركية غالباً بأنه يُشبه "ركوب قطار الملاهي".
وقال مسؤول دفاعي آخر: "من الواضح أنه استمر لفترة أطول مما يريد أي شخص".
لكن، مع ذلك، لم تحدث حرب أوسع نطاقاً في الشرق الأوسط حتى الآن، وهو ما يعتبر البنتاجون، أنه ساعد في تجنبها.
وقال وزير الدفاع أوستن في تصريحات للصحافيين هذا الشهر، إن "وضع القوة مهم حقاً. ففي بعض الحالات، تستطيع إيران أن ترى العديد من القدرات المتاحة لدينا. وفي كثير من الحالات، لا تستطيع".
إلا أن تكلفة هذا الوضع أصبحت أكثر وضوحاً أيضاً، وفقاً لـ Defense News، لا سيما ما يتعلق بقدرة الجيش الأميركي على تلبية الاحتياجات المستقبلية، حيث سيكون البنتاجون في حالة قرر إرسال المزيد من قواته إلى الشرق الأوسط، أمام معادلة "تكاليف أعلى على قواته لتجنب فاتورة أكبر"، وما هو يبدو جلياً في تحريك حاملات الطائرات التي تُعد أقوى أدوات سلاح البحرية، والتي يمكن للولايات المتحدة من خلالها استعراض قوتها العسكرية أمام خصومها.
ومع ذلك، تحتاج حاملات الطائرات إلى الكثير من الصيانة، وتقضي حوالي ثلثي عمرها في الموانئ تخضع لنوع من الإصلاح.
أمضت القيادة المركزية عامين بدون حاملة طائرات بعد انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان في عام 2021، لكن منذ 7 أكتوبر، تم إعادة توجيه 4 منها إلى الشرق الأوسط. كما تم نشر معظمها لفترة أطول من الأشهر السبعة المقررة لها في البحر.
وقال مسؤول الدفاعي ثالث: "إذا تأخرنا لمدة شهر عن إعادة حاملة الطائرات إلى فترة الصيانة، فإن ذلك يتسبب في مزيد من الاضطراب".
وفي ظل عدم تحديد تأثير هذه التمديدات حتى الآن، قال العديد من مسؤولي الدفاع ومساعدي الكونجرس، إن الولايات المتحدة مضطرة بالفعل إلى إدارة "المقايضات" بين احتياجات الشرق الأوسط اليوم والمناطق الأخرى في المستقبل.
واعتبر الأميرال بول لانزيلوتا رئيس قسم الاستعداد لقيادة قوات الأسطول التابعة للبحرية الأميركية، والتي تشرف على الأسطول المتمركز في الساحل الشرقي، أن الجداول الزمنية والسفن نفسها أثبتت مرونتها، ولم تظهر بعد تآكلاً أعلى.
وقال لانزيلوتا، إن "إبحار هذه السفن في الممرات الخطرة لأشهر أخرى سيضع بالتأكيد ضغوطاً على ذلك، لكنني لا أرى حقاً أن هذه العملية قد تنكسر".
حوادث قريبة
في فبراير، أطلق الحوثيون صاروخًا صاروخاً باليستياً على المدمرة البحرية "جرافلي" في البحر الأحمر.
ورغم أن السفن الأميركية تعرضت لاستهدافات عديدة من قبل الجماعة نفسها، إلا أن الهجوم في تلك المرة كان قريباً، ما اضطر "جرافلي" إلى استخدام سلاح قصير المدى لاعتراض الهجوم. وبحسب ما ذكر مسؤولون في البحرية الأميركية "اقترب الحوثيون من تحقيق هدفهم على بعد ميل بحري". وكان الهجوم مثالاً على التكاليف الإضافية التي بات على البنتاجون التعامل معها، بما في ذلك الإنفاق على القوات التي يتم نشرهم لفترات أطوال، وكذلك الأسلحة التي تحتاجها للرد على مصادر النيران.
وتقدر البحرية الأميركية، أنها أطلقت ذخائر بقيمة 1.16 مليار دولار أثناء وجودها في البحر الأحمر في الفترة بين 7 أكتوبر إلى منتصف يوليو الماضيين.
وأشار مساعد آخر في الكونجرس إلى أن العديد من هذه الأسلحة هي إصدارات قديمة من الصواريخ، على غرار "توماهوك" وطرازات أخرى اعتراضية مثل Standard Missile 2، والتي لن تكون مفيدة في القتال ضد الصين.
بدوره، قال مساعد ثالث في الكونجرس: "لقد تجنبنا الكارثة حتى الآن، لكن هذا لا يعني حقاً أن المهمة قد أنجزت".
في أبريل الماضي، أقر الكونجرس إضافة 95 مليار دولار إلى ميزانية البنتاجون، وكذلك 2.44 مليار دولار إضافية للقيادة المركزي، حيث تم تحديد التمويل لمدة 6 أشهر، ما يعني أنه قد انتهى تقريبا حالياً.
وقال العديد من الموظفين في الكونجرس، إن فاتورة الأشهر الستة التالية ستكون تقريباً نفس الرقم في أبريل، بين 2 و3 مليارات دولار.
بعد عودة وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إلى العاصمة واشنطن من الفلبين خلال أغسطس الفائت، أمر بإرسال سرب مقاتلات وغواصة ومدمرات وحاملة طائرات ثانية من المحيطين الهندي والهادئ إلى القيادة المركزية الأميركية الوسطى النشطة في منطقة الشرق الأوسط. وبعد شهر ونصف من الهدوء النسبي، غادرت إحدى حاملتي الطائرات الأميركية في المنطقة.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، فجرت إسرائيل آلاف أجهزة الاتصال التابعة لـ"حزب الله"، وشنت غارات جوية على مواقعه في جنوب لبنان، ما دفع الجماعة المدعومة من إيران إلى التعهد بالانتقام، وأعقبت إسرائيل ذلك الاختراق لـ"حزب الله" بعملية قصف مكثفة، طالت وفق زعمها نصف مخزون الجماعة من الأسلحة.
وأرجأ أوستن رحلة إلى إسرائيل والأردن هذا الأسبوع، لاحتواء اندلاع آخر للصراع.
وقال مسؤول دفاعي، إن الولايات المتحدة تمتلك الآن غواصة واحدة على الأقل وحاملة طائرات و3 سفن حربية برمائية و9 مدمرات بين شرق البحر المتوسط والقيادة المركزية الأميركية، لافتاً إلى أن 2 من هذه المدمرات تتمركز في البحر الأحمر كان من المقرر أن تخرجا من المنطقة. وتابع المسؤول أنه بعد الهجمات الأسبوع الماضي أمرت وزارة الدفاع الأميركية المدمرتين بالبقاء.
وفي مكالمة مع الصحافيين بعد بدء المواجهة الأخيرة بين إسرائيل و"حزب الله"، قال مسؤول كبير في إدارة بايدن مرة أخرى، إن واشنطن ساعدت في تجنب حرب أوسع، مشيراً إلى أن وقف إطلاق النار هو الخيار الأفضل للجميع في المنطقة.
وفي الأيام التي تلت ذلك، واصلت إسرائيل ضرب لبنان، ما أودى بحياة المئات.
كما نشرت الولايات المتحدة حاملة طائرات أخرى في أوروبا هذا الأسبوع، في مهمة مقررة مسبقاً. وقال المسؤول الدفاعي، إن البنتاجون يضع خططاً في حالة احتياجه إلى التحول إلى للقيادة المركزية الأميركية الوسطى وعبور البحر الأحمر.
وتابع المسؤول الأميركي الكبير: "سنحافظ بشدة على هذا الموقف الرادع، لأننا ما زلنا في أزمة".