وسط أزمات متعاقبة.. جونسون "عالق في الغابة"

time reading iconدقائق القراءة - 15
بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني خلال مؤتمر للرد على قضية "بارتي جيت" - 25 مايو 2022 - REUTERS
بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني خلال مؤتمر للرد على قضية "بارتي جيت" - 25 مايو 2022 - REUTERS
لندن - فؤاد عبد الرازق

بات رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أحد من ينطبق عليهم المثل الانجليزي not out of the woods yet، الذي تعني ترجمته إلى العربية "لم يخرج من الغابة بعد"، إذ أصبح يُشببه الكثيرون في الأوساط السياسية والإعلامية البريطانية بـ"أشهر العالقين في الغابة"، على خلفية الأزمات المتعاقبة التي تواجهها حكومته.

حين نُحِتَ هذا المصطلح ودخل قاموس اللغة الإنجليزية في أواخر القرن الثامن عشر تقريباً، كانت الغابات بالنسبة للإنجليز ذلك الزمان، أماكن موحشة على الأغلب، ومصدراً للمخاطر. ويبدو أن جونسون في موقف سياسي أشبه بالغابة الموحشة، إذ تستمر في ملاحقته سلسلة فضائح تهدد بقاءه على رأس الحكومة وحزب المحافظين.

جونسون الذي نجا من اقتراع لسحب الثقة، الشهر الماضي، يواجه تهديدات متنامية لقيادته، آخرها استقالة وزيري الصحة والمالية في حكومته ساجد جاويد وريشي سوناك، فيما بدا أنه تحرك منسق ضد رئيس الوزراء إذ انتقد كلاهما قدرته على إدارة حكومة تلتزم بالمعايير.

وقال جاويد إن العديد من المشرعين والجمهور فقدوا الثقة في قدرة جونسون على الحكم بدافع من المصلحة الوطنية. وأضاف في رسالة إلى جونسون "يؤسفني أن أقول، مع ذلك، إنه من الواضح لي أن هذا الوضع لن يتغير تحت قيادتك، وبالتالي فقد فقدت ثقتي أيضاً".

من جانبه، قال سوناك، الذي قيل إنه اشتبك مع رئيس الوزراء على انفراد بشأن الإنفاق، "بالنسبة لي أن أتنحى عن منصبي كوزير، بينما يعاني العالم من العواقب الاقتصادية للوباء والحرب في أوكرانيا وغير ذلك من التحديات الخطيرة الأخرى، هو قرار أتخذه بصعوبة".

تأتي الاستقالتان في أعقاب فضيحة جديدة تورطت فيها حكومة بوريس جونسون، تتمثل في استقالة مساعد مسؤول الانضباط البرلماني لحزب المحافظين كريس بينشر المتهم من قبل العديد بالتحرش الجنسي. 

أزمة كريس بينشر

يبدو أن هذه الفضيحة كانت بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس بالنسبة للوزيرين، خصوصاً وأنهما دعما جونسون علناً على مدى شهور عند مواجهته أزمات سابقة متعلقة بسلوك إدارته وتقرير عن إقامة حفلات في مكتبه ومقر إقامته بداوننج ستريت في انتهاك لقواعد الإغلاق الصارمة خلال جائحة كورونا.  

وكانت استجابة جونسون لأزمة كريس بينشر موضع انتقادات كثيرة. وأكدت رئاسة الوزراء في البداية أن جونسون لم يكن على علم بالمزاعم القديمة ضد بينشر عندما عينه في منصبه في فبراير الماضي.

لكن الكشف عن مزيد من المعلومات أظهر أنه كان على علم بالأمر منذ عام 2019 عندما كان وزيراً للخارجية، والثلاثاء الماضي، أعلن جونسون أن تعيين بينشر "كان خطأً" واعتذر، قائلاً إنه لم يدرك أن كريس بينشر لم يكن مناسباً لمنصب بالحكومة.

توقعات متشائمة

وبعد أقل من ثلاث سنوات على قيادته حزب المحافظين لتحقيق انتصاره الانتخابي الأكبر منذ عقود على غريمه حزب العمال، صار جونسون يمسك بزمام السلطة في بلدٍ على شفا الركود، حتى أن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تتوقع أنه لن يحقق نمواً اقتصادياً على الإطلاق خلال العام المقبل، وهو مصير مشؤوم لا يُنتظر أن تشارك بريطانيا فيه من بين الدول ذات الاقتصاديات الكبرى في العالم، سوى روسيا وحدها، لتنتقل المملكة المتحدة بذلك دفعة واحدة من صاحبة ثاني أسرع الاقتصادات نمواً في مجموعة السبع هذا العام بعد كندا، إلى أبطأها على الإطلاق.

هذه التوقعات المتشائمة، لم تصدر من منظمات دولية معنية بالاقتصاد فحسب، فرابطة "غرف التجارة البريطانية"، التي تمثل مختلف القطاعات الاقتصادية والشركات الكبيرة والناشئة في المملكة المتحدة، ترى هي الأخرى، أن نسبة النمو المتوقعة العام المقبل، لن تتجاوز 0.6%، بسبب الارتفاع القياسي لمعدل التضخم، إلى مستوى هو الأعلى منذ أربعة عقود، بجانب تبعات الحرب الروسية الأوكرانية.

لكن محاولات رئيس الوزراء المحافظ وحزبه، تعليق الأزمة على شماعة الحرب وحدها، لا تقنع الكثيرين هنا في بريطانيا. فهناك من يعيد الأزمة إلى ما قبل ذلك بكثير، على الأقل إلى صيف 2016، حينما صوَّت البريطانيون بأغلبية بسيطة على الخروج من الاتحاد الأوروبي، دعماً للخيار الذي تبناه وقتذاك ساسة يمينيون ومحافظون، كان جونسون من بين أعلاهم صوتاً.

فمنذ ذلك الحين، تشهد الساحة البريطانية تقلبات سياسية واقتصادية متلاحقة، بدأت باستقالة ديفيد كاميرون، أحد أبرز أنصار البقاء في التكتل الأوروبي، لتخلّفه وزيرة داخليته تيريزا ماي، التي رسبت بدورها في اختبار صياغة اتفاق لـ"بريكسِت"، يحظى بدعم مجلس العموم. وفي نهاية المطاف، رست سفينة الحكم، عند مرفأ ذلك السياسي ضخم الجثة، الذي كان قبل وصوله إلى "10 داونينِج ستريت"، عمدةً للندن لثماني سنوات، ووزيراً للخارجية، فرئيساً للوزراء، بعد انتزاعه قيادة حزب المحافظين من تيريزا ماي.

ورغم النجاح الذي حققه جونسون في الشهور الأولى له في السلطة، خاصة على صعيد قيادة المحافظين لتحقيق أغلبية برلمانية مريحة، في انتخابات 12 ديسمبر 2019، التي بسط عبرها الحزب سيطرته على 365 من مقاعد مجلس العموم الـ 650، مُلحقاً بـ "العمال" الهزيمة الأقسى منذ عام 1935. فإن ما حدث تالياً، برهن على أن هذا الصحفي والروائي السابق الذي ولد في نيويورك لأبوين بريطانيين عام 1964، لم يكن على قناعة على ما يبدو، بما سطَّره الكاتب الإنجليزي الأشهر وليام شكسبير في رائعته "روميو وجولييت" قبل قرون، من إنه يتعين على المرء أن يمضي "بحكمة وتؤدة، لأن من يركضون بسرعة.. يتعثرون".

محنة كورونا 

ومع هبوب عاصفة كورونا على العالم في ربيع 2020، بدأ الارتباك يشوب خطى حكومة جونسون، الذي لا ينسى كثيرون كلمته المتلفزة الكابوسية، التي اعتبر خلالها أن الوباء هو "التحدي الأخطر لهذا الجيل"، مُحذراً مواطنيه من أنهم قد يفقدون "أحباءهم"، دون أن يلتزم هو نفسه – كما تبين لاحقاً - بإجراءات الإغلاق الشامل، التي اتخذتها حكومته.

البريطانيون، الذين حصدت الجائحة أرواح أكثر من 152 ألفاً منهم حتى مطلع العام الجاري، اكتشفوا أن رئيس وزرائهم كان يشارك خلال فترات الإغلاق، في حفلات نُظِمَت في مقر رئاسة الحكومة، وهو ما عُرِفَ بفضيحة "بارتي جيت"، التي قادت لتعالي الأصوات المُطالبة له بالاستقالة حتى في صفوف حزبه، خاصة في ظل انتقاداتٍ وُجِهَت لنهج حكومته في التعامل مع ملف الوباء بشكل عام.

ولا يطوي إفلات جونسون من التصويت البرلماني الذي أُجري لحجب الثقة عنه على خلفية هذه الفضيحة مطلع الشهر الماضي، صفحة أزماته ومحنة بريطانيا معاً. فهذا الرجل لا يزال "محاصراً بالمشكلات ومُثقلاً بالفضائح"، كما يقول الكاتب الصحفي البريطاني صامويل إيرل في مقال لاذع نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، لا سيما بعد خسارة "المحافظين" مؤخراً انتخابات تكميلية في دائرتيْن، إحداهما كانت من بين المعاقل التقليدية للحزب في جنوب إنجلترا، وهو ما دفع رئيسه أوليفر دودن لتقديم استقالته. 

وفي نظر إيرل، ومحللين مخضرمين آخرين، يدفع الحزب الحاكم في بريطانيا حالياً، ضريبة سياساته الاقتصادية، التي حالت دون أن تزيد الأجور بشكل حقيقي منذ عام 2010، بفعل التضخم الآخذ في الارتفاع. كما قادت هذه السياسات، لتزايد الفجوة بين المناطق الثرية ونظيرتها الفقيرة في المملكة المتحدة، وهو ما تواكب مع ظهور تبعات مضي "المحافظين" على درب "البريكسِت"، دون وضع خطة واضحة أو متكاملة.

ولأن الأرقام أصدق إنباءً هنا من الكلمات، تكفينا الإشارة إلى نتائج دراسةٍ، كُشِفَ عنها النقاب قبل بضعة أسابيع. فالدراسة التي أجرتها مؤسسة "مركز الإصلاح الأوروبي" للأبحاث، ونشرتها وسائل إعلام بريطانية رصينة، أظهرت أن حجم الخسائر الاقتصادية للمملكة المتحدة، على مدار السنوات الأخيرة، تُقَدَّر بـ 31 مليار جنيه إسترليني، أي ما يُعادل 37.7 مليار دولار أميركي، وأن الجانب الأكبر من هذا النزيف المالي يُعزى إلى "بريكسِت".

وخلال الشهور القليلة الماضية، شعر البريطانيون بوطأة هذه الخسائر، بعدما اصطفوا أمام محطات وقودٍ خاوية على عروشها، وبوغتوا بارتفاع أسعار سلعٍ أساسية، خاصة في مجاليْ الغذاء والطاقة، وفوجئوا باختفاء منتجات أخرى من على رفوف المتاجر الكبرى، بسبب الأزمات التي ضربت سلاسل الإمداد والتوريد في العالم، جراء كورونا، والحرب في أوكرانيا، والخروج من الاتحاد الأوروبي أيضاً.

وفي الصيف الماضي، أقر مكتب الإحصاء الوطني في بريطانيا، بأن سبعاً من كل عشر شركات في البلاد، عجزت في فترة ما، عن الحصول على ما تحتاجه من مواد خام أو سلعٍ أو خدمات. وفي ذلك الوقت، اضطرت سلاسل شهيرة للوجبات السريعة، إلى حذف عناصر بعينها من قوائم المشروبات والمأكولات المُتاحة لديها، وهو ما فعلته مطاعم "ماكدونالدز" مثلاً قبل شهور، وعادت الأسبوع الماضي فقط للتحذير منه، بعدما وضع بعض فروعها ملصقاتٍ، تحذر من أنها تعاني من شُحٍ في مخزوناتها من بعض مكونات الشطائر التي تقدمها، وغيابٍ كاملٍ لمكونات أخرى.

ولم يكن مستغرباً أن تقود أوضاعٌ مثل هذه، إلى خروج تظاهراتٍ في منتصف يونيو الماضي بقلب لندن، للاحتجاج على ارتفاع تكاليف المعيشة، والإعراب عن التضامن مع الإضرابات العمالية، خاصة تلك التي تضرب قطاع النقل، وأدى أحدها إلى شل الحركة تقريباً في العاصمة، على مدى ثلاثة أيام خلال الشهر نفسه.

بروتوكول إيرلندا الشمالية

ولأن مصائب المحافظين لا تأتي فُرادى، فلم يتورع جونسون عن الزج بحكومته الشهر الماضي في أزمةٍ أخرى، تتعلق هذه المرة، بمساعيه لتعديل ما يُعرف بـ "بروتوكول إيرلندا الشمالية"، الذي تم إبرامه، في سياق الإجراءات الخاصة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ووافقت عليه حكومة لندن الحالية نفسها.

ففي إطار هذا البروتوكول، استُحْدِثَت حدودٌ جمركية في البحر الإيرلندي، لتجنب إقامة حدودٍ برية بين إقليم إيرلندا الشمالية، وهو جزءٌ من المملكة المتحدة، وجمهورية إيرلندا، العضو في الاتحاد الأوروبي.

وتفجر محاولات التعديل، التي تمثل استجابةً لمطالب القوى الوحدوية الموالية للندن في بلفاست، صداماً لا يبدو محمودَ العواقب، بين حكومة جونسون من جهة، والتكتل الأوروبي والقوى الرافضة لحكم التاج البريطاني لإيرلندا الشمالية من جهة أخرى، بما يُنذر بحالة من الشلل السياسي، في ذلك الإقليم، الذي طالما شَكَلَّ صداعاً في رأس صناع القرار بعاصمة الضباب، لعقود طويلة.

حرام على البريطانيين حلال على أوكرانيا 

الغريب أن جونسون، الذي سبق أن اعتبره أحد أسلافه أشبه بـ "خنزيرٍ صغيرٍ مُغطى بالشحم"، وذلك في مدحٍ أقرب منه إلى الذم لقدرته على الإفلات من الفخاخ مهما بدت شائكة، اختار التعامل مع كل هذه المشكلات، عبر الهروب إلى الأمام، ومحاولة الاضطلاع بدور قياديٍ، في صدارة المعسكر الغربي الرافض للحرب الروسية في أوكرانيا، ما أوقعه في مآزق أخرى.

فتعهد رئيس الوزراء البريطاني خلال قمة حلف شمال الأطلسي الأخيرة في مدريد، بتخصيص مليار جنيه إسترليني إضافية لأوكرانيا، لم ينزل برداً وسلاماً على ناخبيه المُثقلين بالكثير من الأعباء الاقتصادية، كما أن محاولته مع عدد من قادة دول مجموعة السبع، السخرية من صورة ظهر فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عاري الصدر، ارتدت عليهم بشكل لاذع، بعدما لم يتردد سيد الكرملين، في أن يرد لهم الصاع صاعيْن.

ولعل ذلك ما دفع كاتباً بريطانياً مثل أندرو جرايس إلى تذكير رئيس حكومة بلاده في مقال نشرته صحيفة "الإندبندنت" ذات توجهات يسار الوسط، بأن "الهروب من مشكلاته، لن يجعلها تتلاشى"، وأن انهماكه في رحلات خارجية، كتلك التي قادته مؤخراً إلى رواندا لحضور قمة دول الكومنولث، فضلاً عن مشاركته في قمتيْ (الناتو) ومجموعة السبع في إسبانيا وألمانيا، لن يُجديه نفعاً، لأن التاريخ يثبت أنه "من النادر أن يفلت رئيسٌ للوزراء في المملكة المتحدة، من أزماته في الداخل بالسفر إلى الخارج".

المزعج بالنسبة لبريطانيا ورئيس حكومتها الطامح في البقاء في موقعه حتى الانتخابات المقبلة المقررة أواخر 2024، أن التاريخ يبدو أنه يعيد نفسه حالياً بوتيرة متسارعة، فأحدث الأرقام الرسمية، تشير إلى عودة الإصابات بفيروس كورونا للارتفاع بشكل هائل، على نحوٍ يشمل مختلف المناطق وكل الفئات العمرية، وذلك بعد تسجيل قرابة مليونيْ إصابة خلال الأسبوع الأخير من يونيو وحده.

يتزامن ذلك، مع توالي التوقعات الاقتصادية المتشائمة. فمع وصول سعر البنزين إلى مستوى قياسيٍ جديدٍ يلامس 1.80 جنيه إسترليني للتر، يُرجح اقتصاديون أن تبلغ نسبة التضخم عتبة الـ 10%، قبل نهاية العام الجاري، ما يُذكِّر البعض بنبوءةٍ، تحمل طابع الكوميديا السوداء، أطلقها الممثل والكاتب البريطاني بيتر كوك، نجم فن الهجاء في البلاد في ستينيات القرن العشرين، وألمح فيها، إلى أن فشل الساسة في المملكة المتحدة، قد يقودها إلى أن "تغرق ذات يوم في البحر.. من فرط الضحك والقهقهة". 

اقرأ أيضاً:

تصنيفات